Pressroom

إنفجار الفساد

لمياء المبيّض بساط

 

هزَّ انفجار بيروت كياننا ودمر بيوتنا واحلامنا وجعلنا نعيش صدمةً أشبه ما تكون بالاعتداء، أسبابها الإهمال المتعمّد والفساد الذي يحملّه الناس للمسؤولين. فكيف السبيل للتعاطي مع صدمة كهذه؟ نحن الذين لم ينطفئ لهيب النار في قلوبنا، ولم يتوقف صراخ الأطفال والشيوخ والجرحى في رؤوسنا، ولم تبهت صور الدماء في عيوننا.

كلّنا يعرف أن الاسباب المباشرة للكارثة هي سوء إدارة بعض المرافق العامة، وكفاية شبه معدومة لدى عدد من المسؤولين، وأساليب العمل المتقادمة والرثة في أكثر من إدارة، ورفض الالتزام بالمعايير أو التلكؤ في تطبيقها، واستفحال الفساد والرشوة كنظام عمل ارتضاه بعض القطاعين العام والخاص سبيلا للإثراء السهل.

كلّها أسباب مباشرة صحيحة، لكننا ورغم هول الكارثة، نُدرك أنها أيضا نتيجة لاندثار نظام القيم المتهالك في مجتمع أضعفته الحروب الصغيرة والنزاعات الكبيرة ونظريات المؤامرة. اندثار عزز تأليه بعضنا لأصحاب الثروة والمال، وضاعف قدرتنا كمجتمع على تحمّل الفساد والتعايش معه كما يتعايش المريض مع خلايا سرطانية نائمة.

المصارحة واجبة، لعلّنا نعالج الأسباب بمنهجيّة علميّة ونقدّر عن حقّ أخطار الزبائنية والطائفيّة فنغيّر من طريقتنا في التعامل مع مفهومي المسؤولية والصلاحيّة لنتشبّث بالأولى ونتفهّم الثانية. أما العدالة فهي واجب الأجيال علينا إذا لم نرد لها أن تطرق باب الهجرة. العدالة ليس من باب التشفي بل لأن في المحاسبة والعدالة قوة دفع مجتمعيّة، وحدها تمكننا من قانون استعادة الأموال المنهوبة ضرورة ماسّة لإستعادة الثقة ومحاسبة الناهبين

العدل مدماك السلام المجتمعي وغيابه سيكون بمثابة اعتداء آخر علينا. الألم والقهر في نفوسنا لن يشفيهما سوى المحاسبة والتخلص من الفساد المتمكّن من مجتمعنا. لذلك لا بدّ من العودة إلى الأساسيات: معركتنا هي استخلاص الدروس، وتقبّل تحمّل المسؤولية، وتنظيف نظام القيم الذي ارتضيناه، وعدم التسامح مطلقاً مع الفساد، وبناء مؤسسات قويّة يقودها أصحاب الكفايات والأخلاق في القطاع الخاص كما في الدولة.

بعد الانفجار، توحّدت كلمات المؤسسات الدولية بشكل لافت رافضة التعامل مع مؤسسات الدولة والبلديات لجهة تنسيق المساعدات وايصالها لمحتاجيها، والتخطيط لاعادة الاعمار واستنهاض الحركة الاقتصادية، مفضَّلةً التعامل مع المجتمع المدني وذلك بحجة تفشي وباء الفساد وانعدام الثقة بمؤسسات الدولة.

في الواقع، ثمّة خلط ضمني وعلني بين المنظومة السياسية ومؤسسات الدولة والسلطات المنتخبة التي من دون شك شهدت ومنذ العام 2008 ترهلاً كبيراً دلت عليه معظم مؤشرات الحوكمة الصادرة عن المؤسسات الدولية، والزيادة الكبيرة في حجم الدولة وكلفتها حتى تعدّت الـ 52% في موازنة العام 2020 (موازنة المواطنة والمواطن الصادرة عن معهد باسل فليحان المالي والاقتصادي).

المجتمع الدولي، يقرأ هذه المؤشرات ويبني عليها استراتيجيات التدخل معللاً اياها بتحكّم المنظومة السياسيّة بالقرار المؤسساتي والزبائنية وانعدام الكفاية وانتشار ڤيروس الفساد. لكن نسأل، هل موت الدولة ومؤسساتها هو الحلّ؟ وهل الاصرار على الخلط بين الدولة والمنظومة الفاسدة هو سبيلنا للخلاص؟

في الدولة، كما في كلّ القطاعات، ليس كل المسؤولين فاسدين أو مستزلمين أو أدوات. ليست كل المؤسسات ولا كلّ البلديات فاشلة أو تافهة أو غير فعالة وليس كلّ المجتمع المدني مجتمعاً منظّماً وصادقاً وغير منتفع.قتلُ مفهوم “الدولة” في زمنٍ أكثرُ ما نحتاج فيه الى الدولة، ليس حلاً. ولا نعني بذلك الدولة التافهة طبعاً، بل الدولة القادرة، الدولة الحُلم، الدولة المنتصرة لمواطنيها الضعفاء.

فكيف لنا أن نتناسى باسم “مكافحة الفساد” المعضلة الاساس وهي اصلاح الدولة وتحسين اطر الحوكمة فيها بالشراكة مع المجتمع المدني طبعاً، وتحريرها من هيمنة الاقطاع السياسي الذي أمعن في استغلالها لتقوية قواعده ومشاريعه على حساب المواطن والمال العام، حتى ولو أدى ذلك إلى كارثة.

هذا هو بالذات مفتاح مكافحة الفساد. والطريق إلى المستقبل تبدأ بالمحاسبة وبعدم التسامح مع الفساد، وباسترجاع الدولة من خاطفيها. والمسار السياسي هو نقطة الانطلاق الأولى. أما العناوين فتبدأ بالسرعة والجديّة في تشكيل حكومة ذات صدقية عالية، متميزة بأصحاب الكفايات والخبرة والشخصية، منحلّة الارتباط بالمنظومة الحاكمة. وثانياً، صدقية وكفاية المولجين بالملفات الاصلاحيّة الصعبة من كبار المسؤولين في الدولة أو من ستكلّفهم الحكومة إدارة هذه الملفات. وثالثاً، صدقية اللغة التي ستخاطب بها الحكومة المجتمع الدولي ونوعية المؤشرات التي ستقدمها لتأكيد نيتها وقدرتها على التنفيذ الجدي للاصلاحات الجوهريّة. ورابعاً، مقدرتها على التشارك مع مجتمع متألم ومقهور لكن نابض بالقدرة على اجتراح الحلول وخلق دينامية ايجابية لمعالجة تحديات اجتماعية واقتصادية هائلة والتصدي للمصالح الفردية الضيقة والقاتلة.

كلنا معنيون بما حدث. مواطِنون عاديون أو في سدة المسؤولية. كلُّنا من دون إستثناء مدعوون الى التوقف والتمعن جيداً بعوارض موت الدولة أو بدلائل ووسائل قتلها. نحن جزءٌ منها يئنُّ من الفساد وينزف من الإستهتار ومن تدمير سلّم القيم وموتها موتنا وقيامتها قيامتنا. نفض الغبار عن الفساد لا نفض الأيدي من الدولة هو الترياق.