Pressroom

إقتراح قانون الشراء العام (2) - لماذا يحتاج لبنان إلى قانون حديث للشراء العام؟

معهد باسل فليحان المالي والاقتصادي – مجلة الأمن العام – عدد 92 – أيار 2021

في العام 2019 ، كلف معهد باسل فليحان المالي والاقتصادي تطبيق توصيات المؤتمر الوطني الاول حول الشراء العام الذي جمع المؤسسات الدولية والهيئات الاقتصادية والمجتمع المدني، منها اعداد اقتراح قانون عصري. تدرس اللجنة النيابية الفرعية برئاسة ياسين جابر اقتراح القانون، وقد خصصت له حتى الان اكثر من 35 جلسة
ماذا يحمل اقتراح القانون من جديد وكيف سيتعاطى معه المجتمع اللبناني والدولي؟ الشراء العام او التوريد (مصطلح حديث يستبدل تعبير الصفقات) هو احد ابرز محاور الاصلاحات الهيكلية لتحسين الحوكمة المالية، وتحفيز النهوض واستعادة الثقة التي التزمتها الحكومة اللبنانية خلال مؤتمر سيدر (2018)، وفي البيانات الوزارية لحكومتي الرئيس سعد الحريري (2019) والرئيس حسان دياب (2020)* وتضمنتها مسودة الخطة المالية (نيسان 2020)**.
اكدت مجموعة الدعم الدولية للبنان، خلال اجتماع باريس (كانون الاول 2019) وفي بيانها بعد تشكيل الحكومة الحالية (23 كانون الثاني 2020)، على اهمية تنفيذ هذه الالتزامات ودعمها لعملية اصلاح الشراء العام كشرط لتمويل برنامج الانفاق الاستثماري في قطاعات حيوية يحتاج اليها لبنان.
كلف وزير المال معهد باسل فليحان المالي والاقتصادي – وزارة المال، متابعة جهود الاصلاح منذ مطلع العام 2019 . وتمت بلورة رؤية لهذا العمل، اعتمدت على تشخيص علمي كامل وشامل لواقع اداء منظومة الشراء العام – مسح MAPS – بالتعاون مع البنك الدولي والوكالة الفرنسية للتنمية. على مدى 19 شهرا عمل فريق المعهد مع مجموعة عمل من 13 خبيرا لبنانيا ودوليا، بالتعاون الوثيق مع اربع مؤسسات دولية هي مبادرة SIGMA المشتركة للاتحاد الاوروبي، ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD ، والبنك الدولي، والوكالة
الفرنسية للتنمية AFD ، على وضع نص لقانون عصري راجعت هذه الجهات الدولية مضمونه في اكثر من مرحلة، اضافة الى جهات وطنية.
كما بيّنا سابقا، اشارت نتائج مسح MAPS الى ان منظومة الشراء العام في لبنان متهالكة وتعاني من ثغر جوهرية على كل المستويات، ما يعوّق عملها ويزيد من اهدار المال العام، ومخاطر التواطؤ والفساد، وتداخل الصلاحيات بين المؤسسات المعنية، وتدهور جودة الخدمات العامة. فمن اصل 210 معايير جرى تقويم المنظومة على اساسها، سجل لبنان تطابقا كليا في 11 معيارا فقط، اي بنسبة 5%. في المقابل، حدد 120 معيارا غير مطابق للمعايير الدولية، و 71 معيارا مطابقا تطابقا جزئيا.
من ابرز توصيات تقرير MAPS على المستويين القانوني والتنظيمي، اعداد واقرار قانون شراء عام شامل وحديث واستكماله بمجموعة كاملة ومتجانسة من المراسيم التطبيقية، قابلة للتطبيق على كل الجهات الشارية.
اعتمدت منهجية علمية تشاركية في اعداد اقتراح القانون، مؤلفة من ست مراحل، اولها كان مراجعة نصوص مشاريع القوانين المقترحة سابقا حفاظا على الجهود الوطنية التي بذلت في هذا الخصوص. في المرحلة الثانية، اجرى فريق العمل دراسة مقارنة بالقوانين التي اقرت في عدد من الدول العربية، ابرزها الاردن (2019)، مصر (2018)، فلسطين (2014)، تونس (2014)، وتوصيات مسح MAPS اضافة الى المراجع الدولية الاساسية:
-1 قانون الاونسيترال النموذجي (2011) الذي تعتمد عليه كل الدول الراغبة في تطوير اطارها القانوني.
-2 المبادىء الموصى بها من قبل منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD في العام 2016.
بعد ذلك، اجريت مشاورات واسعة مع الجهات المختصة وممثلين عن القطاع الخاص والمجتمع المدني ساهمت في تعديل مسودة القانون. اخيرا، تم الطلب من الخبراء في المؤسسات الدولية الشريكة مراجعة النص المقترح.
هذه المنهجية المبنية على البينات والحجة والدراسات المقارنة، تعتمد دوليا في تطوير نصوص القوانين المالية وهي تعتمد للمرة الاولى في لبنان.
يرتكز اقتراح القانون على ثمانية مبادئ للشراء العام، مستقاة من المبادىء الدولية الاثني عشر الصادرة عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD ، وهي:
-1 الميزة الشاملة حيث تشمل احكام القانون كل الجهات الشارية واي شخص من اشخاص القانون العام ينفق مالا عاما، بتمويل من الموازنة او الخزينة او من هبات وقروض. يشمل المبدأ كل انواع المشتريات العامة، اي تنفيذ الاشغال، وتوريد اللوازم وتقديم الخدمات بما فيها الخدمات الاستشارية داخلية او خارجية، بما لا يخالف احكام المعاهدات والاتفاقات الدولية المبرمة اصولا من الدولة اللبنانية.
-2 التخطيط والدمج مع الموازنات يلزم القانون الجهات الشارية كافة تحديد الحاجات وتحضير الخطط السنوية والمتوسطة تزامنا مع اعداد الموازنات العامة، واستنادا الى نماذج موحدة. كما يوفر امكان لحظ خطة شراء سنوية او متعددة السنة في حال تتضمن مشاريع يقتضي تنفيذها جدولة التزامات في اطار متوسط او طويل الامد.
-3 المساءلة، من خلال تطبيق اليات واضحة للاشراف والرقابة، في مراحل الشراء كافة، على ان تشمل استحداث اليات جديدة وفاعلة للشكاوى والاعتراضات ضمن مهل محددة لبتها وتدابير العقاب الملائمة بما يعزز الثقة بالاداء.
-4 الفعالية والمنافسة، اي الحرص على ان تكون الاجراءات التنافسية هي القاعدة العامة والطريقة المعيارية لاجراء عمليات الشراء كوسيلة لتعزيز الكفاية، وتأمين فرص متكافئة وعادلة لجميع الموردين المحتملين، واعتماد وثائق واضحة ومتكاملة وموحدة (دفاتر شروط نموذجية) بحيث يكون استخدامها ملزما لكل الجهات الشارية، واعتماد ضوابط صارمة تحد من الاتفاقات الرضائية وتوفير طرق شراء متعددة تتماشى مع متطلبات الحداثة، واعتماد قواعد واضحة ومفصلة لتقييم العروض المقدمة ليس على اساس السعر الادنى فقط بل على اساس معايير محددة كالمعايير البيئية او دورة حياة المنتج، مع تحديد شروط وضوابط لتعديل قيمة العقد عند الاقتضاء.
-5 النزاهة، من خلال وضع تعريف واضح لها ولتضارب المصالح وتحديد حالاته المتعددة وتحديد انواع العقوبات التي تطاول موظفي القطاعين العام والخاص بدرجات تتناسب مع نوع العمل او الفعل او الامتناع عنه، اضافة الى تحديد انواع الرقابة والعقوبات التي تطال موظفي القطاعين العام والخاص بدرجات تتناسب مع نوع المخالفة.
-6 الشفافية، من خلال اعتماد منصة الكترونية مركزية لدى هيئة الشراء العام والزام الجهات الشارية نشر المعلومات الاساسية المتعلقة بمراحل الشراء على هذه المنصة، والسماح بالنفاذ الحر لجميع اصحاب المصلحة، بما في ذلك الموردين المحليين والاجانب المحتملين والمجتمع المدني والجمهور الى المعلومات، مع مراعاة حالات السرية التي ينص عليها القانون. بموجب هذا المبدأ، تعلن الجهات الشارية عن خططها وتفاصيل تنفيذها بما في ذلك سير عملية الشراء واجراءات التلزيم وتوقيع العقود ونتيجة الاستلام والقيمة النهائية للعقد. كذلك ينص على ادماج التكنولوجيا الرقمية في استبدال او اعادة تصميم الاجراءات الورقية في مراحل الشراء كافة، ويوفر المدخل القانوني الى الشراء الالكتروني وادارة البيانات.
-7 التخصص، لجهة تخصيص موارد بشرية عالية المهنية للقيام بعمليات الشراء، وموجب التدريب المستمر للعاملين في هذا المجال ليكونوا على قدر عال من المهنية والاحتراف والنزاهة. ويدرج القانون الشراء العام كوظيفة محددة، قائمة بذاتها، ضمن الهيكل الوظيفي في الدولة، وتحدد المراسيم التطبيقية اطر الكفايات المعرفية والمهارات والخبرة المهنية والسلوكيات اضافة الى التوصيف الوظيفي وشروط التوظيف و/او التعيين والترفيع. ويلحظ اقتراح القانون التأكد من ان جميع الموظفين المسؤولين عن الشراء العام او المتدخلين في اي مرحلة من مراحله يستوفون المعايير المهنية المنصوص عليها.
-8 الاستدامة، بحيث تعتمد الجهات الشارية، حيث امكن، الشراء المستدام لتوجيه القدرة الشرائية للدولة نحو السلع والخدمات المستدامة بهدف تقليص الاثر البيئي وتحقيق الاهداف الاقتصادية والاجتماعية المنصوص عليها في المواثيق والمعاهدات والاتفاقات الدولية ووفقا للاولوية الوطنية، مع الحرص على تحقيق التوازن بين المنافع المحتملة وعلى تحقيق القيمة الفضلى من انفاق المال العام، وبشكل يسمح باعطاء حوافز للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة وللانتاج المحلي وللخبرات الوطنية.
ينظم اقتراح القانون عمليات الشراء العام على اساس لامركزي مع ادارة مركزية ناظمة تدير المنصة الالكترونية المركزية وتتدخل بفعالية لمنع الفساد والتواطؤ: ففي المنظومات الحديثة، عادة ما تكون المهمات التنفيذية للشراء لامركزية بشكل يتيح لكل ادارة تنفيذ خططها الاستجابة
بالسرعة اللازمة لحاجات المواطنين، مع دور مركزي ناظم تتولاه عادة وزارات المالية مباشرة (في حالة مصر) او هيئات/ادارات مستقلة (حالة تونس) اضافة الى دور بارز لهيئات متخصصة بالنظر في الشكاوى والنزاعات ما قبل توقيع العقد (هيئة الاعتراض) وما بعده (مجلس شورى الدولة) ودور رقابي لاحق (ديوان المحاسبة).
اقتراح القانون يطور ادارة المناقصات الحالية التي تصبح هيئة مستقلة تقع عليها مسؤولية القيام بمهمات اساس لانتظام هذا القطاع بما في ذلك ادارة نظام شراء الكتروني موحد E-procurement يسمح بتوثيق المعلومات بشكل منظم على المستويين المركزي والمحلي، وتوفيرها لصانعي القرار وللجمهور .open data
هيئة الشراء العام سوف تنظم وتوجه وتساهم في توحيد الاجراءات عبر وضع مستندات معيارية ودفاتر شروط نموذجية. كذلك ستراقب سير عمليات الشراء كاملة من خلال المنصة الالكترونية المركزية التي ستنشأ لديها، كمثل الاطلاع على دفاتر الشروط ولجان الاستلام والتلزيم. وسيكون في امكانها الاعتراض على سير عملية الشراء متى تعارضت مع مقتضيات المصلحة العامة، ورفع تقارير الى رئاسة الجمهورية ومجلس النواب ومجلس الوزراء.
هيئة الاعتراضات، وهي هيئة مستقلة تعمل وفق اليات ومسارات سريعة لبت المراجعات والشكاوى خلال فترة ما قبل التعاقد. تعتمد هيئة الاعتراضات على خبرات متنوعة تمكنها من دراسة ملفات الشكاوى من وجهتي نظر تقنية وقانونية بما يتيح لها البت بها بفعالية اكبر. كذلك
تتمتع الهيئة بالمرونة اللازمة لاتخاذ قراراتها بالسرعة المطلوبة كونها هيئة ادارية.
قانون عصري وحده لا يكفي بالطبع، وان بات شبه جاهز للاقرار في مجلس النواب اللبناني. فهو يبقى خطوة مجتزأة اذا لم يترافق مع مسار الاصلاح الذي لا يتوقف عند حد اقرار تشريع جديد او اعادة تنظيم اداري معين. ويعمل حاليا معهد باسل فليحان بالتنسيق مع البنك الدولي والوكالة الفرنسية للتنمية، على بلورة استراتيجيا وطنية متوسطة الى طويلة الامد تتضمن مجموعة من التدابير الاصلاحية المتلازمة.
من مداميك هذه الاستراتيجيا رفع المستوى المهني للكادر البشري حيث يلاحظ اختلال كبير بين المهارات المطلوبة وتلك المتوافرة حاليا (%48 من العاملين غير ملمين بالممارسات الدولية الجيدة)، وغياب لتوصيف وظيفي لمهنة الشراء العام. وقد اشارت الى ذلك معظم التقارير الدولية التي اعتبرت ان هذا النقص يمثل خطرا ائتمانيا كبيرا بالنسبة الى الحكومة. وعزت سببه الى عدم خضوع جميع المعنيين الى تدريب الزامي ولا لتيويم الزامي مستمر لمعارفهم (على الرغم من كل الجهود المبذولة) بما يتلاءم مع متطلبات الادارة المالية الحديثة والمتغيرات الدولية، الامر الذي يضعف قدرة الدولة على ادارة نظام الادارة المالية واصلاحه. كما اكدت التقارير ان الامر يكتسب اهمية اكبر اذا ما اخذنا في الاعتبار
ان هذا النقص يعتبر من الصفات الابرز للحوكمة المالية الضعيفة.
اخيرا، تتضمن الاستراتيجيا الاستثمار في البنية التحتية المعلوماتية لدى كل الجهات الشارية والمنصة الالكترونية المركزية التي هي من دون شك اساس لنظام حديث ورقابة فعلية وافصاح من دونه لا تستقيم الامور، وقد سبقتنا دول عربية كثيرة الى ذلك آخرها تونس التي باتت تعتمد بدءا من 1/1/2019 بشكل ملزم الشراء الالكتروني اللامركزي على منصة مركزية Tuneps.

* تلتزم الحكومة الحالية في بيانها الوزاري “متابعة كل الجهود التي بذلتها وزارة المال لاصلاح منظومة الشراء العام، بما في ذلك استكمال المسح الدولي (MAPS) واقرار توصياته واعتمادها، والعمل على الاقرار الفوري لمشروع قانون عصري للشراء العام مع الاخذ في الاعتبار ملاحظات الجهات المختصة”.
** لحظت الحكومة في الخطة المالية الاصلاحية التي اقرتها في 30 نيسان 2020، ضرورة اقرار قانون الشراء العام ضمن مجموعة من القوانين التي اعدت في سياق مؤتمر سيدر ليكون احد التدابير الاصلاحية الهيكلية الضرورية لايجاد بيئة اعمال تنافسية تجذب الاستثمارات وترفع الانتاجية لتوفير ارضية خصبة لنشاط القطاع الخاص.

Resources